فصل: تفسير الآية رقم (268)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


تفسير الآية رقم ‏[‏243‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏243‏)‏‏}‏

لمّا استبعدوا قدرة الله في الإعادة أراهم في أنفسهم عياناً، ثم لم ينفع إظهار ذلك لِمَنْ لم يشحذ بصيرته في التوحيد‏.‏ ومن قويت بصيرته لم يضره عدم تلك المشاهدات فإنهم تحققوا بما أُخْبِرُوا، لِمَا آمنوا به بالغيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏244‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏244‏)‏‏}‏

يعني إنْ مَسَّكم ألمٌ فتصاعد منكم أنين فاعلموا أن الله سميع لأنينكم، عليم بأحوالكم، بصير بأموركم‏.‏ والآية توجِبُ تسهيل ما يقاسونه من الألم، وقالوا‏:‏

إذا ما تمنى الناسُ روحا وراحةً *** تمنيت أن أشكو إليك فتسمع

تفسير الآية رقم ‏[‏245‏]‏

‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏245‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏‏.‏

سُمِّي القرض قرضاً لأنه يقطع من ماله شيئاً ليعطيه للمقترض، والمتصدِّق لما يقطع الصدقة من ماله سميت صدقته قرضاً، فالقرض القطع، ولكن هذه التسمية لحفظ قلوب الأحباب حيث خاطبك في باب الصدقة باسم القرض ولفظه‏.‏

ويقال دلّت الآية على عِظَم رتبة الغَنِيِّ حيث سأل منه القرض، ولكن رتبة الفقير في هذا أعظم لأنه سأَل لأَجْله القَرضَ، وقد يسأل القرض من كل أحد ولكن لا يسأل لأجل كل أحد‏.‏ وفي الخبر «مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي على شعير أخذه لقوت عياله أَبْصِرْ مِمَّن اقترض ولأجل مَنْ اقترض»‏.‏

ويقال القرض الحسن ما لا تتطلع عليه لجزاء ولا تطلب بسببه العِوَض‏.‏

ويقال القرض الحسن ألا يعطى على الغفلة، وإنما يعطى عن شهود‏.‏

ويقال القرض الحسن من العلماء إذا كان عند ظهر الغني، ومن الأكابر إذا كان بشرط الإيثار يعطى ما لا بد منه‏.‏

ويقال القرض الحسن من العلماء عن مائتين خَمْسَة، وعلى لسان القوم بذل الكل، وزيادة الروح على ما يبذل‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

يقبض الصدقة من الأغنياء قبض قبوله، ويبسط عليهم بسط خَلَفِه‏.‏

ويقال يقبض الرزق أي يُضَيق، يبسط الرزق أي يوسِّع؛ يقبض على الفقراء ليمتحنَهم بالصبر، ويبسط على الأغنياء ليطالبهم بالشكر‏.‏

ويقال يقبض تسلية للفقراء ليطالبهم حتى لا يروا من الأغنياء، ويبسط لئلا يتقلدوا المِنَّةَ من الأغنياء‏.‏

ويقال قال للأغنياء‏:‏ إذا أنا قبضت الرزق على الفقراء فلا تذروهم، وإذا أنا بسطت عليكم فلا تروا ذلك لفضيلة لكم‏.‏

ويقال قَبَضَ القلوب بإعراضه وبَسَطَها بإقباله‏.‏

ويقال القبض لما غلب القلوب من الخوف، والبسط لما يغلب عليها من الرجاء‏.‏

ويقال القبض لقهره والبسط لِبِرَّه‏.‏

ويقال القبض لِسرِّه والبسط لكشْفِه‏.‏

ويقال القبض للمريدين والبسط للمُرادين‏.‏

ويقال القبض للمتسابقين والبسط للعارفين‏.‏

ويقال يقبضك عنك ثم يبسطك به‏.‏

ويقال القبض حقه، والبسط حظك‏.‏

ويقال القبض لمن تولَّى عن الحق، والبسط لمن تجلى له الحق‏.‏

ويقال يقبض إذا أَشْهَدَكَ فِعْلَكَ، ويبسط إذا أشهدك فضله‏.‏

ويقال يقبض بذكر العذاب ويبسط بذكر الإيجاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏246‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏246‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلإِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا‏}‏‏.‏

استقبلوا الأمر بالاختيار، واقترحوا على نبيِّهم بسؤال الإذن لهم في القتال، فلمَّا أجيبوا إلى ما ضمنوه من أنفسهم ركنوا إلى التكاسل، وعرَّجوا في أوطان التجادل والتغافل‏.‏ ويقال إنهم أظهروا التصلب والجد في القتال ذَبَّاً عن أموالهم ومنازلهم حيث‏:‏

‏{‏قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

فلذلك لم يتم قصدهم لأنه لم يَخْلُص- لحقِّ الله- عزمُهم، ولو أنهم قالوا‏:‏ وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله لأنه قد أمرنا، وأوجب علينا، فإنه سيدنا ومولانا، ويجب علينا أمره- لعلَّهم وُفِّقُوا لإتمام ما قصدوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏247‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏247‏)‏‏}‏

نسوا حق الاختيار فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فاستبعدوا أن يكون طالوت ملكاً لأنه كان فقيراً لا مال له، فبيَّن لهم أن الفضيلة باختيار الحق، وأنه وإن عَدِمَ المالَ فقد زاده الله علماً فَفَضَلَكم بعلمه وجسمه، وقيل أراد أنه محمود خصال النفس ولم يُرِدْ عظيم البِنْيَة فإن في المثل‏:‏ «فلان اسم بلا جسم» أي ذكر بلا معنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏248‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏‏}‏

إن الله سبحانه إذا أظهر نوراً أمدَّه بتأييد من قِبَلهِ، فلما ملك طالوت عليهم أزال الإشكال عن صفته بما أظهر من آياته الدالة على صدق قول نبيِّهم في اختياره، فردَّ عليهم التابوت الذي فيه السكينة، فاتضحت لهم آية ملكه، وأن نبيهم عليه السلام صَدَقَهم فيما أخبرهم‏.‏

ويقال إن الله تعالى جعل سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي رَضوا عن الألواح، وعصا موسى عليه السلام، وآثار صاحب نبوتهم‏.‏ وجعل سكينة هذه الأمة في قلوبهم، فقال‏:‏ «هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين» ثم إن التابوت كان تتداوله أيدي الأعداء وغيرهم؛ فَمرَّةً كان يُدْفَن ومرة كان يُغلب عليه فيُحمَل، ومرة يُرَد ومرة ومرة *** وأما قلوب المؤمنين فَحَالَ بين أربابها وبينها، ولم يستودعها ملكاً ولا نبياً، ولا سماء ولا هواء، ولا مكاناً ولا سخصاً، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» يعني في قبضة الحق سبحانه، وتحت تغليبه وتصريفه، والمراد منه «القدرة»، وشتَّان بين أمة سكينتهم فيما للأعداء عليه تَسَلُّط وأمةٍ سكينتهم فيما ليس لمخلوق عليه لسلطان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏249‏]‏

‏{‏فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ‏}‏‏.‏

الإشارة من هذه الآية أن الله سبحانه ابتلى الخَلْق بصحبة الخلْق وبالدنيا وبالنَّفس، ومن كانت صحبته مع هذه الأشياء على حدِّ الاضطرار بمقدار القوام، وما لا بد منه نجا وسَلِمَ، ومن جاوز حد الاضطرار وانبسط في صحبته مع شيء من ذلك من الدنيا والنفس والخلْق بموجب الشهادة والاختيار- فليس من الله في شيء إنْ كان ارتكاب محظور، وليس من هذه الطريق في شيء إن كان على جهة الفضيلة وماله منه بُدٌّ‏.‏

ثم قال جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ‏}‏‏.‏

كذلك الخواص في كل وقت يقل عددهم ولكن يجل قدرهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ‏}‏‏.‏

فنظروا إلى الحال بعين الظاهر فَدَاخَلَهم شيء من رعب البشرية، فربط الله على قلوبهم بما ذكَرهم من نصرة الحق سبحانه لأوليائه إذا شاء‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏

لا بهم ولكن بإذن الله، بمشيئته وعونه ونصرته، والله مع الصابرين بالنصرة والتأييد والقوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏250‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏‏}‏

كان أهم أمورهم الصبر والوقوف للعدو، ثم بعده النصرة عليهم فإن الصبر حق الحق، والنصرة نصيبهم، فقدَّموا تحقيق حقه- سبحانه- وتوفيقه لهم، ثم وجود حظِّهم من النصرة، ثم أشاروا إلى أنهم يطلبون النصرة عليهم- لا للانتقام منهم لأَجْل ما فاتهم من نصيبهم- ولكن لكونهم كافرين، أعداء الله‏.‏

فقاموا بكل وجهٍ لله بالله؛ فلذلك نُصِرُوا وَوَجدوا الظفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏251‏]‏

‏{‏فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ‏}‏‏.‏

هيب الله الأعداء بطالوت لما زاده من البسطة في الجسم ولكن عند القتال جعل الظفر على يدي داود‏.‏ وكان كما في القصة رَبْعَ القامة غير عظيم الجثة، مختصر الشخص، ولم يكن معه من السلاح إلا مقلاع، ولكن الظفر كان له لأن نصرة الله سبحانه كانت معه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ‏}‏‏.‏

فلم يبق منهم أثر ولا عين، وقتل داودُ جالوتَ وداود بالإضافة إلى جالوت في الضخامة والجسامة كان بحيث لا تُتَوهَم غلبته إياه ولكن كما قال قائلهم‏:‏

استقبلني وسيفه مسلول *** وقال لي واحدنا معذول

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ‏}‏‏.‏

لو تظاهر الخلْق وتوافقوا بأجمعهم لهلك المستضعفون لغلبة الأقوياء ولكن شغل بعضهم ببعض ليدفع بتشاغلهم شرَّهم عن قوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏252‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏‏}‏

لم يكن في علمك ولا في وسع احتيالك الوقوف على هذه الغائبات من الكائنات التي سلفت، وإنما وقَفْتَ عليها بتعريفٍ من قِبَلِ الله سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏253‏]‏

‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏253‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَاَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ‏}‏‏.‏

جمعتهم الرسالة ولكن تباينوا في خصائص التفضيل، لكل واحدٍ منهم أنوار، ولأنوارهم مطارح، فمنهم من هو أعلى نورا، وأتم من الرفعة وفوراً‏.‏ فلم تكن فضائلهم استحقاقهم على أفعالهم وأحوالهم، بل حُكْمٌ بالحسنى أدركهم، وعاقبة بالجميل تداركتهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّن ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏‏.‏

ولكنهم مُصَرّفون بالمشيئة الأزلية، ومسلوبون من الاختيار الذي عليه المدار وبه الاعتبار‏.‏ والعبودية شدُّ نطاق الخدمة وشهود سابق القسمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏254‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏254‏)‏‏}‏

يعني اغتنموا مساعدة الإمكان في تقديم الإحسان قبل فتور الجَلَد وانقضاء الأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏255‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏255‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ‏}‏‏.‏

«الله» اسم تفرّد به الحق- سبحانه فلا سمِيّ له فيه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏ اي هل تعرف أحداً غيره تسمَّى «الله»‏؟‏‏.‏

من اعتبر في هذا الاسم الاشتقاق فهو كالمتعارض، فهذا اسم يدل على استحقاق صفات الجلال لا على اشتقاق الألفاظ، فلا يعارض ما لا يعارض فيه من الأقوال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏‏:‏ إخبار عن نفي النظير والشبيه، بما استوجب من التقديس والتنزيه‏.‏ ومن تحقق بهذه القالة لا يرى ذَرّةً من الإثبات بغيره أو من غيره؛ فلا يرفع إلى غيره حاجته، ولا يشهد من غيره ذرة، فَيَصْدُقُ إليه انقطاعه، ويديم لوجوده انفرادَه، فلا يسمع إلا من الله وبالله، ولا يشهد إلا بالله، ولا يُقْبِلْ إلا على الله، ولا يشتغل إلا بالله، فهو محوٌ عما سِوى الله، فَمَالَهُ شكوى ولا دعوى، ولا يتحرك منه لغيره عِرْقٌ، فإذا استوفى الحق عبداً لم يَبْقَ للحظوظ- ألبتة- مساغ‏.‏

ثم إن هذه القالة تقتضي التحقق بها، والفناء عن الموسومات بجملتها، والتحقق بأنه لا سبيل لمخلوق إلى وجود الحق- سبحانه، فلا وصل ولا فصل ولا قُرْبَ ولا بُعدَ، فإن ذلكَ أجمعَ آفاتٌ لا تليق بالقِدَم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الحي القيوم‏}‏‏:‏ المتولي لأمور عباده، القائم بكل حركة، و‏(‏المحوي‏)‏، لكل عين وأثر‏.‏

‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ لأنه أحدي لا ترهقه غفلة، وصمد لا تمسه علة، وعزيز لا تقاربه قلة، وجبار لا تميزه عزلة، وفَرْدٌ لا تضمه جثة، ووتر لا تحده جهة، وقديم لا تلْحَقُه آفة، وعظيم لا تدركه مسافة‏.‏

تَقَدَّس مِنْ جمالِه جلالُه، وجلالُه جمالُه، وسناؤه بهاؤه، وبهاؤه سناؤه، وأزله أبده، وأبده سرمده، وسرمدهِ قدَمُه، وقدمه وجوده‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لَّهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ‏}‏

مِلْكاً وإبداعاً، وخَلْقاً واختراعاً‏.‏

‏{‏مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏‏.‏

من ذا الذي يتنفس بنَفَس ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلا بإجرائه، أو يتوسل إليه من دون إذنه وإبدائه‏.‏ ومن ظنَّ أنه يتوسل إليه باستحقاقٍ أو عمل، أو تذلل أو أمل، أو قربة أو نسب، أو علة أو سبب- فالظنُّ وطنه والجهل مألفه والغلظ غايته والبعد قُصاراه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏

لأنه لا يخرج عن علمه معلوم، ولا يلتبس عليه موجود ولا معدوم‏.‏

‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ‏}‏‏.‏

يعني من معلوماته، أي تقاصرت العلوم عن الإحاطة بمعلوماته إلا بإذنه‏.‏

فأي طمع لها في الإحاطة بذاته وحقه‏؟‏ وأَنَّى تجوز الإحاطة عليه وهو لا يقطعه في عِزِّه أَمَد، ولا يدركه حَدٌّ‏؟‏‏!‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏‏.‏

خطاب لهم على قدر فهمهم‏.‏ وإلا فأي خَطَرٍ للأكوان عند صفاته‏؟‏

جلَّ قَدْرُه عن التعزز بعرش أو كرسي، والتجمل بجنٍ أو إنْسِي‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِىُّ العَظِيمُ‏}‏‏.‏

كَيف تُتْعِبُ المخلوقاتُ مَنْ خَلْقُ الذرة والكونِ بجملته- لو سواء؛ فلا من القليل له تَيَسُّر، ولا من الكثير عليه تَعَسُّر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏256‏]‏

‏{‏لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏256‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ‏}‏‏.‏

فإن الحجج لائحة، والبراهين ظاهرة واضحة‏.‏

‏{‏قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ‏}‏‏.‏

وامتاز الليل بظلامه عن النهار بضيائه، والحقوق الأزلية معلومة، والحدود الأولية معلولة فهذا بنعت القدم وهذا بوصف العَدَم‏.‏

‏{‏فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ‏}‏‏.‏

وطاغوتُ كلِّ واحدٍ ما يشغله عن ربه‏.‏

‏{‏وَيُؤْمِنُ بِاللهِ‏}‏‏.‏

والإيمان حياة القلب بالله‏.‏

‏{‏فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقِى‏}‏‏.‏

الاستمساك بالعروة الوثقى الوقوف عند الأمر والنهي، وهو سلوك طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله‏.‏

‏{‏لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

فمن تحقق بها سراً، وتعلَّق بها جهراً فاز في الدارين وسَعِد في الكونين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏257‏]‏

‏{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏257‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏اللهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏‏.‏

الولي بمعنى المتولي لأمورهم، والمتفرد بإصلاح شؤونهم، ويصح أن يكون الولي على وزن فعيل في معنى المفعول فالمؤمنون يقولون طاعته‏.‏ وكلاهما حق‏:‏ فالأول جمع والثاني فرق، وكلُّ جمع لا يكون مقيداً بفرقٍ وكلُّ فرقٍ لا يكون مؤيداً بجمع فذلك خطأ وصاحبه مبطل والآية تُحْمَلُ عليهما جميعاً‏.‏

‏{‏يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏‏.‏

يعني بحكمه الأزلي صانهم عن الظلمات التي هي الضلال والبدع، لأنهم ما كانوا في الظلمات قط في سابق علمه‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ‏}‏‏.‏

ما استهواهم من دواعي الكفر‏.‏

‏{‏يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

باستيلاء الشُبَه على قلوبهم، فيجحدون الربوبية، أولئك الذين بقوا عن الحق بقاء أبدياً‏.‏

ويقال بخرجهم من ظلمات تدبيرهم إلى سعة شهود تقديره‏.‏

ويقال يخرجهم من ظلمات ظنونهم أنهم يتوسلون أو يَصِلُون إليه بشيء من سكناتهم وحركاتهم‏.‏

ويقال يخرجهم من ظلماتهم بأن يرفع عنهم ظِلْ أنفسهم ويدخلهم في ظل عنايته‏.‏

ويقال يخلصهم عن حسبان النجاة بهم‏.‏

ويقال يحول بينهم وبين الاعتماد على أعمالهم والاستناد إلى أحوالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏258‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏258‏)‏‏}‏

عَجَّل الحق سبحانه لأعدائه عقوبة الفرقة قبل أن يعاقبهم بالحرقة، وهذه العقوبة أشد أثراً في التحقيق- لو كانت لهم عين البصيرة‏.‏ وإن الحق سبحانه أخبر أن إبراهيم عليه السلام انتقل مع العدو اللعين من الحجة الصحيحة إلى أخرى، أَوْضَحَ منها- لا لِخَلَلٍ في الحجة- ولكنْ لقصورٍ في فهم الكافر، ومحكُّ مَنْ سُدَّتْ بصائره عن التحقيق تضييعُ الوقت بلا فائدة تُجدِي، لا بمقدار ما يكون من الحاجة لأمرٍ لا بُدَّ منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏259‏)‏‏}‏

لم يكن لك سؤال جحدٍ، ولا قضية جهل، ولا دلالة شكٍ في القدرة، فإن هذا الخبر عن عُزَيْر النبي عليه السلام، والأنبياءعليهم السلام لا يجوز عليهم الشّكُّ والجهل، ولكنه كان سؤال تعجُّب، وأراد بهذه المقالة زيادة اليقين، فأراه الله ذلك في نفسه، بأن أماته ثم أحياه ثم بعث حماره وهو ينظر إليه، فازداد يقيناً على يقين‏.‏ وسؤالُ اليقين من الله، والحيلةُ في ردِّ الخواطر المشكلةُ، دَيْدَنُ المتعرفين، ولذلك ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الله سبحانه عُزيراً في هذه المقالة حتى قدَّر عليه ما طلب من زيادة اليقين فيه‏.‏ ثم قال ‏{‏واعلم أن الله على كل شيء قدير‏}‏ من الإحياء والإماتة أي ازددت معرفة بذلك، وأراني من عظيم الآيات ما أزداد به يقيناً؛ فإنَّ طعامه وشرابه لم يتغيرا في طول تلك المدة، وحماره مات بلا عظام والطعام والشراب بالتغيير أَوْلى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏260‏)‏‏}‏

قيل كان في طلب في زيادة اليقين، فأراد أن يقرن حق اليقين بما كان له حاصلاً من عين اليقين‏.‏

وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أو لم تؤمن قال بلى‏}‏ كنت أومن ولكني اشتقتُ إلى قولك لي‏:‏ أَوَلم تؤمن، فإن بقولك لي‏:‏ ‏{‏أو لم تؤمن‏}‏ تطميناً لقلبي‏.‏ والمحبُّ أبداً يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه‏.‏

وقيل‏:‏ إنه طلب رؤية الحق سبحانه ولكن بالرمز والإشارة فَمُنِعَ منها بالإشارة بقوله ‏{‏وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏ وإن موسى- عليه السلام- لما سأل الرؤية جهراً وقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏ فَرُدَّ بالجهر صريحاً وقيل له ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏‏.‏

وقيل إنما طلب حياة قلبه فأُشير إليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور، وفي الطيور الأربعة طاووس، والإشارة إلى ذبحه تعني زينة الدنيا، وزهرتها، والغراب لحِرصِه، والديك لمشيته، والبط لطلبه لرزقه‏.‏

ولما قال إبراهيم عليه السلام ‏{‏أرِنِى كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى‏}‏‏؟‏ قيل له‏:‏ وأرني كيف تذبح الحي‏؟‏ يعني إسماعيل، مطالبة بمطالبة‏.‏ فلمَّا وَفَّى بما طولب به وفَّى الحق سبحانه بحكم ما طلب‏.‏

وقيل كان تحت ميعاد من الحق- سبحانه- أن يتخذه خليلاً، وأمارة ذلك إحياء الموتى على يده، فجرى ما جرى‏.‏

ووصل بين قصة الخليل صلى الله عليه وسلم فيما أراه وأظهره على يده من إحياء الموتى وبين عُزَير إذ أراه في نفسه؛ لأن الخليل يَرْجُح على عزير في السؤال وفي الحال، فإن إبراهيم- عليه السلام- لم يَرُدَّ عليه في شيء ولكنه تَلَطَّف في السؤال، وعُزَير كلمه كلام من يُشْبِه قولُه قولَ المسْتَبْعِد، فأراد الحق أن يظهر له أقوى معجزة وأتمَّ دلالة حيث أظهر إحياءَ الموتى على يده حين التبس على نمرود ما قال إبراهيم- عليه السلام- ربي الذي يحيي ويميت، فقال‏:‏ ‏{‏أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ‏}‏ أراد إبراهيم أن يُرِيَه الله سبحانه إحياء الموتى ليعلم أنه ليس هو الذي ادَّعى‏.‏

وفي هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادةَ اليقين من الله سبحانه وتعالى في حال النظر‏.‏

ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام، فقيل له‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِن‏}‏ يعني أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شيء رأيته ‏{‏هَذَا رَبِّى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 77‏]‏ فلم تَدْرِ كيف بَلَّغْنَاكَ إلى هذه الغاية، فكذلك يوصلك إلى ما سَمَتْ إليه هِمَّتُك‏.‏

والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعني النفس؛ فَمَنْ لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يَحْيَى قلبُه بالله‏.‏

وفيه إشارة أيضاً وهو أنه قال قَطِّعْ بيدك هذه الطيور، وفَرِّقْ أجزاءها، ثم ادْعُهُنَّ يأتينك سعياً، فما كان مذبوحاً بيد صاحب الخلة، مقطعاً مُفَرَّقاً بيده- فإذا ناداه استجاب له كل جزء مُفَرَّق‏.‏‏.‏ كذلك الذي فَرَّقه الحق وشتَّته فإذا ناداه استجاب‏:‏

ولو أنَّ فوقي تُرْبةً وَدَعَوْتَنِي *** لأجَبْتُ صَوْتَكَ والعِظَامُ رُفَاتُ

تفسير الآية رقم ‏[‏261‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏‏}‏

فالخَلَفُ لهم الجنة، والذين ينفقون أرواحهم في سبيل الله فالخَلَفُ عنهم الحقُّ سبحانه، وشتان بين خلف من أنفق ماله فوجد مثوبته، ومَنْ أنفق حاله فوجد قربته؛ فإنفاق المال في سبيله بالصدقة، وإنفاق الأحوال في سبيله بملازمة الصدق، وبنفي كل حظ ونصيب، فترضى لجريان حكمه عليك من غير تعبيس القلب، قال قائلهم‏:‏

أُريد وصاله ويريد هجري *** فأتركُ ما أريد لما يريد

والإنفاق على ضربين‏:‏ إنفاق العابدين وإنفاق الواجدين‏.‏ أمَّا العابدون فإذا أنفقوا حَبَّةً ضاعَفَ لهم سبعين إلى ما ليس فيه حساب، وأما الواجدون فكما قيل‏:‏

فلا حَسَنٌ نأتي به يقبلونه *** ولا إن أسأنا كان عندهم محو

تفسير الآية رقم ‏[‏262‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏‏}‏

المنُّ شهود ما تفعله، والأذى تذكيرُك- لمن أحسنت إليه- إحسانَك‏.‏

ويقال ينفقون ما ينفقون ثم لا يشهدون ألبتة أفعالهم ولا أعمالهم‏.‏

ويقال كيف يمنون بشيء تستعذرونه وتستحقونه‏.‏

ويقال لا يمنون بفعلهم بل يشهدون المنة لله بتوفيق ذلك عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏263‏]‏

‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏‏}‏

يعني قولٌ- للفقير المجرد- يرد به من تعرض له بإظهار العذر خير وأتم من صدقة المعجَبِ بفعله، وما يتبع من إلزام المنة فيه‏.‏

ويقال إقرار منك مع الله بعجزك وجُرْمك، وغفران الله لك على تلك القالة- خبرٌ مِنْ صَدَقَةٍ بالمنِّ مشوبة، وبالأذى مصحوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏264‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏‏}‏

إنما يُحْمَلُ جميلُ المنة من الحق سبحانه، فأمَّا من الخلْق فليس لأحد على غيره مِنَّةَ؛ فإنَّ تحمل المنن من المخلوقين أعظم محنة، وشهود المنة من الله أعظم نعمة، قال قائلهم‏:‏

ليس إجلالُكَ الكبار بِذُلِّ *** إنما الذُّلُّ أنْ تُجِلَّ الصِّغَارا

ويقال أفقرُ الخلْق مَنْ ظنَّ نفسَه موسِراً فيَبِين له إفلاسه، كذلك أقل الخلْق قدراً من ظن أنه على شيءٍ فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏265- 266‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏‏}‏

هذه آيات كثيرة ذكرها الله تعالى على جهة ضرب المثل للمخلص والمنافق‏:‏ لمن أنفق في سبيل الله، ولمن أنفق ماله في الباطل؛ فهؤلاء يحصل لهم الشرف والخلف، وهؤلاء لا يحصل لهم في الحال إلا الردّ، وفي المآل إلا التلف‏.‏ وهؤلاء ظلَّ سعيهم مشكوراً، وهؤلاء يدعون ثبوراً ويَصْلَوْنَ سعيراً‏.‏ هؤلاء تزكو أعمالهم وتنمو أموالهم وتعلو عند الله أحوالهم وتكون الوصلة مآلهم، وهؤلاء حَبِطَتْ أعمالهم وخسرت أحوالهم وختم بالسوء آمالهم ويضاعف عليهم وَبالهم‏.‏

ويقال مَثَلُ هؤلاء كالذي أنبت زرعاً فزكا أصله ونما فصله، وعلا فَرْعُه وكثر نَفْعُه‏.‏ ومَثَلُ هؤلاء كالذي خسرت صفقته وسرقت بضاعته وضاعت- على كبره- حيلته وتواترت من كل وجهٍ وفي كل وقت محنته *** هل يستويان مثلاً‏؟‏ هل يتقاربان شَبَها‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏267- 267‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏‏}‏

لينظرْ كلُّ واحدٍ ما الذي ينفقه لأجل نفسه، وما الذي يخرجه بأمر ربه‏.‏ والذي يخرج عليك من ديوانك‏:‏ فما كان لحظِّك فنفائس ملكك، وما كان لربك فخصائص مالك الذي لله ‏(‏فاللُّقْمَةُ لُقْمَتُه‏)‏، والذي لأجلك فأكثرها قيمة وأكملها نعمة‏.‏

ثم أبصر كيف يستر عليك بل كيف يقبله منك بل أبصر كيف يعوضك عليه، بل أبصر كيف يقلبه منك، بل أبصر كيف يمدحك بل أبصر كيف ينسبه إليك؛ الكلُّ منه فضلاً لكنه ينسبه إليك فعلاً، ثم يُولِي عليك عطاءه ويسمي العطاء جزاءً، يوسعك بتوفيقه بِرًّاً، ثم يملأ العَالَم منك شكراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏268‏]‏

‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏‏}‏

يَعِدُ الشيطانُ الفقرَ لفقره، والله يَعِدُ المغفرةَ لكرمه‏.‏

الشيطانُ يعدكم الفقر فيشير عليكم بإحراز المعلوم، ويقال يشير عليكم- بطاعته- بالحرص؛ ولا فقرَ فوقه‏.‏

يعدكم الفقر بالإحالة على تدبيركم واختياركم‏.‏

يعدكم الفقر بنسيان ما تَعَوَّدْتُموه من فضله- سبحانه‏.‏

ويقال يعدكم الفقر بأنه لا يزيد شكايتك‏.‏

ويقال يعدكم الفقر بتعليق قلبك بما لا تحتاج إليه‏.‏

ويقال بالتلبيس عليك رؤية كفايته‏.‏

‏{‏وَيَأْمُرُكُم بِالفَحْشَاءِ‏}‏ أي الرغبة في الدنيا، ويقال بالأسباب التي تقوي الحرص، ويقال بكثرة الأمل ونسيان القناعة، ويقال بمتابعة الشهوات، ويقال بإيثار الحظوظ، ويقال بالنظر إلى غيره، ويقال بإخطار شيء سواه ببالك‏.‏

ويقال بالانحطاط إلى أوطان الرُّخص والتأويلات بعد وضوح الحق‏.‏

ويقال بالرجوع إلى ما تركته لله‏.‏

‏{‏وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً‏}‏‏:‏ الفضل الموعود- في العاجل- القناعة، وفي الآجل الثواب والجنان والرؤية والرضوان و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ والغفران‏.‏

ويقال في العاجل الظفر بالنفس، ويقال فتح باب العرفان، ونشر بساط القرب، والتلقي لمكاشفات الأنْس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏269‏]‏

‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏‏}‏

الحكمة‏:‏ يحكم عليكم خاطرُ الحقِّ لا داعي النفس، وتحكم عليكم قواهر الحق لا زواجر الشيطان‏.‏

ويقال الحكمة صواب الأمور‏.‏

ويقال هي ألا تحكم عليك رعوناتُ البشرية‏.‏

‏(‏ومن لا حكم له على نفسه لا حكم له على غيره‏)‏‏.‏

ويقال الحكمة موافقة أمر الله تعالى، والسَّفَهُ مخالفة أمره‏.‏

ويقال الحكمة شهود الحق والسَّفَهُ شهود الغير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏270‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏‏}‏

قوم تَوَعَّدَهم بعقوبته، وآخرون توعدهم بمثوبته‏.‏‏.‏ وآخرون توعدهم بعلمه؛ فهؤلاء العوام وهؤلاء الخواص‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏ فلا شيء يوجب سقوط العبد من عين الله كمخالفته لعهوده معه بقلبه، فليحذر المريد من إزلال نفسه في ذلك غايةَ الحذر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏271‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏‏}‏

إن أظْهَرْتَ صحبتَكَ معنا وأعلنتَ فلقد جوَّدْتَ وأحْسنْتَ، وإنْ حفظت سِرَّنَا عن دخول الوسائط بيننا صُنْتَ شروط الوداد، وشَيَّدت من بناء الوصلة العماد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏272‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏‏}‏

لكَ المقام المحمود، واللواء المعقود، والرتب الشريفة، والمنازل العلية، والسنن المرضية‏.‏ وأنت سيد الأولين والآخرين، ولا يدانيك أحدُ- فضلاً عن أن يساميك، ولكن ليس عليك هداهم فالهداية من خصائص حقنا، وليس للأغيار منه شطية‏.‏ يا محمد‏:‏ أنت تدعوهم ولكن نحن نهديهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏273‏]‏

‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏‏}‏

أخذ عليهم سلطانُ الحقيقة كلَّ طريق، فلا لهم في الشرق مذهب، ولا لهم في الغرب مضرب‏.‏ كيفما نظروا رأوا سرادقات التوحيد محدقة بهم‏:‏

كأنَّ فجاجَ الأرض ضاقَتْ بِرَحْبِها *** عليهم فما تزداد طولاً ولا عرضا

ولا يسلم لهم نفس مع الخلق، وأنَّى بذلك ولا خَلْق‏!‏‏!‏ وإذا لم يكن فإثبات ما ليس شِرْكٌ ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ في التوحيد‏.‏

والفقير الصادق واقف مع الله بالله، لا إشراف للأجانب عليه، ولا سبيل لمخلوق إليه تنظره عين الأغيار في لبسة سوى ما هو به؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ‏}‏ فأما من كان ذا بصيرة فلا إشكال عليه في شيء من أحوالهم‏.‏ تعرفهم يا محمد- أنت- بسيماهم، فليست تلك السيماء مما يلوح للبصر ولكنها سيماء تدركها البصيرة‏.‏ لا إشراف عليهم إلا بنور الأحدية‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏تَعرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ‏}‏‏:‏ استبشار قلوبهم عند انكسار نفوسهم، وصياح أسرارهم إلى العرش ‏(‏نشاطاً عنه‏)‏ عند ذبول ظاهرهم عن الانتعاش‏.‏

ويقال تكسر الظاهر عند تكسر الباطن وبالعكس من هذه لا يسألون الناس إلحافاً، فإن جرى منهم من الخلق بدون الإلحاف سؤال- لما يشير إليه دليل الخطاب- فذلك صيانة لهم ولسر قصتهم، لئلا يلاحظهم الخلْق بعين السؤال، وليس على سرّهم ذرة من الإثبات للأغيار‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ‏}‏‏:‏ وقفوا على حكم الله، وأحْصَرُوا نفوسَهم على طاعته وقلوبَهم على معرفته، وأرواحَهم على محبته، وأسرارَهم على رؤيته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏274‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏274‏)‏‏}‏

ما دام لهم مال لا يفترون ساعة عن إنفاقه ليلاً ونهاراً، فإذا نفد المال لا يفترون عن شهوده لحظةً ليلاً ونهاراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏275‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏275‏)‏‏}‏

مَنْ أعرض عن الأمر، ورخَّص لنفسه بما يسوِّله له خاطره من التأويل فلا استقلال لهم في الحال ولا انتعاش في المآل؛ خسروا في عاجلهم ولم يربحوا في آجلهم‏.‏

ومَنْ انتبه بزواجر الوعظ، وكَبَحَ لجامَ الهوى، ولم يُطْلِقْ عنان الإصرار فَلَهُ الإمهال في الحال، فإنْ عاد إلى مذموم تلك الأحوال فَلْيَنْتَظِرُوا أوشكَ الاستئصالِ وفجاءة النّكال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏276‏]‏

‏{‏يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏‏}‏

ما كان بإذن منه- سبحانه- من التصرُّفات فمقرون بالخيرات، ومصحوب بالبركات‏.‏ وما كان بمتابعة الهوى يُسَلِّط عليه المَحْقَ، وكانت عاقبة أمره الخسران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏277‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏277‏)‏‏}‏

إن الذين كانوا لنا يكفيهم ما يجدون مِنَّ، لا نضيع أجر من أحسن عملاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏278‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏‏}‏

الاكتفاء بموعود الربِّ خيرٌ للمسلم من تعليق قلبه بمقصود نفسه‏.‏

ومقصودُك من تسويلات النفس، وموعودك مما ضمنه الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏279‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏‏}‏

إن صاحب الإصرار ليس له عندنا وزن ولا مقدار، ولا قَدْرٌ ولا أخطار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏280‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏‏}‏

إذا تقرر عند القاضي إفلاس المحبوس فلا تحل له استدامة حَبْسه، وإن ظهرت لذي الحق حجة المفلس فذلك مرتهن بحق خصمه، ولكنه في إمهال وإنظار‏.‏ والرب لا يحكم بهذا علينا؛ فمع علمه بإعسارنا وعجزنا، وصدق افتقارنا إليه وانقطاعنا له- يرحمنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلَى مَيْسَرَةٍ‏}‏‏.‏ ليس للفقير المفلس وجه يحصل له منه شيء إلا من حيث ما جعل الله سبحانه من سهم الغارمين، فأمَّا من جهة الغلات فالغلة تدخل من رقاب الأموال والعقد‏.‏‏.‏ وأنَّى للمفلس به‏؟‏‏!‏

وأمَّا الربح في التجارة من تقليب رأس المال والتصرُّف فيه‏.‏‏.‏ فأنَّى للمفلس به‏؟‏‏!‏

ما بقي للمفلس إلا قول من قال من الفقهاء ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وإن كان ضعيفاً، فلذلك لمن بقيت له منه الحراك أما المفلس عن قوته- كما هو مفلس عن ماله- ما بقي له وجه إلا ما يسبب له مولاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏281‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏‏}‏

الرجوع على ضربين‏:‏ بالأبشار والنفوس غداً عند التوفي، وبالأسرار والقلوب في كل نَفَسٍ محاسبة؛ نقدٌ ووعد، فنَقْدُ مطالبته أحقُّ مما سيكون في القيامة من وعده‏.‏

وقال للعوام‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا يَوْمًا‏}‏ وقال للخواص‏:‏ ‏{‏وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏282‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏‏}‏

أمَرَ الله سبحانه الخلْقَ بالقيام بالصدق، وعلَّمَهم كيفية معاملاتهم فيما بينهم، والأخذ بالاحتياط والاستشهاد لئلا يُجْرِيَ- بعضُهم على بعض- حيفاً، وذلك من مقتضى رحمته سبحانه عليهم، وموجب رِفقِه بهم كيلا يتخاصموا‏.‏ فأمر بتحصين الحقوق بالكتابة والإشهاد، وأمر الشهود بالتحمل ثم بالإقامة‏.‏

ومن شرع اليومَ ما يقطع الخصومة بينهم فبالحري أن يجري ما يرفع في الآخرة آثار الخصومة بينهم، وفي الخبر المنقول‏:‏ «تواهبوا فيما بينكم فقد وهبت منكم مالي عليكم، فإن الكريم إذا قدر غفر»‏.‏

وفيما شرع من الدَيْن رِفْق بأرباب الحاجات، لأن الحاجة تمس فيحمله الحال على الاحتيال، ويضيق به الصدر عن الاحتمال، ويمنعه حفظ التجمل عن الكدية والسؤال، فأذِنَ له في الاستدانة ليَجْبُرَ أمرهَ في الحال، وينتظرَ فضل الله في المآل، وقد وعد على الإدانة الثوابَ الكثير، وذلك من لطفه تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏284‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏‏}‏

من المعاني والدعاوى، ويقال من القصود والرغائب، وفنون الحوائج والمطالب‏.‏

ويقال ما «تبديه»‏:‏ العبادة، «وما تخفيه» الإرادة‏.‏

ويقال ما «تخفيه»‏:‏ الخطرات و«ما تبديه»‏:‏ «العبارات»‏.‏

ويقال ما «تخفيه»‏:‏ السكنات والحركات‏.‏

ويقال الإشارة فيه إلى استدامة المراقبة واستصحاب المحاسبة، فلا تغفل خطرة ولا تحمل وقتك نَفَساً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏285‏]‏

‏{‏آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏285‏)‏‏}‏

هذه شهادة الحق- سبحانه- لنبيِّه- صلى الله عليه وسلم وعلى آله- بالإيمان، وذلك أتمُّ له من إخباره عن نفسه بشهادته‏.‏

ويقال آمن الخَلْق كلُّهم من حيث البرهان وآمن الرسول- عليه السلام- من حيث العيان‏.‏

ويقال آمن الخَلْق بالوسائط وآمن محمد- صلى الله عليه وسلم- بغير واسطة‏.‏

ويقال هذا خطاب الحق معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القَدْر فقال‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ‏}‏، ولم يقل آمَنتَ، كما تقول لعظيم الشأن من الناس‏:‏ قال الشيخ، وأنت تريد قلتَ‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولً كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏، ولكن شتان بين إيمان وإيمان، الكلُّ آمنوا استدلالاً، وأنت يا محمد آمنتَ وصالاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏286‏]‏

‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏286‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏‏.‏

لكمال رحمته بهم وقفهم على حد وسعهم ودون ذلك بكثير، كل ذلك رِفق منه وفضل‏.‏ ‏{‏لَهَا مَا كَسَبَتْ‏}‏‏.‏

من الخيرات‏.‏

‏{‏وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ‏}‏‏.‏

ما تكسبه من التوبة التي تُنَجِّي من كسب‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏‏.‏

كان إذا وقعت حاجة كلَّموه بلسان الواسطة‏.‏ قالوا‏:‏ ‏{‏يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 134‏]‏ وهذه الأمة قال لهم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وكانت الأمم ‏(‏السالفة‏)‏ إذا أذنبوا احتاجوا إلى مضي مدة لقبول التوبة، وفي هذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الندم توبة»‏.‏

وكانت الأمم السالفة منهم من قال اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، وهذه الأمة اختصت بإشراق أنوار توحيدهم، وخصائصُهم أكثر من أن يأتي عليه الشرح‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاعْفُ عَنَّا‏}‏‏.‏

في الحال‏.‏

‏{‏وَاغْفِرْ لَنَا‏}‏‏.‏

في المآل‏.‏

‏{‏وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

في جميع الأحوال إذ ليس لنا أحد سواك، فأنت مولانا فاجعل النصرة لنا على ما يشغلنا عنك‏.‏

ولمَّا قالوا‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا‏}‏ خَسَفَ الله ذنوبهم بدل خسف المتقدمين، فأبدل ذنوبهم حسنات بدل مسخهم، وأمطر عليهم الرحمة بدل ما أمطر على المتقدمين من الحجارة‏.‏

والحمد لله رب العالمين‏.‏

سورة آل عمران

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الم اللهُ‏}‏‏.‏

أشار بقوله ألف إلى قيامه بكفايتك على عموم أحوالك، فأنت في أسر الغفلة لا تهتدي إلى صلاحك ورشدك، وهو مجرٍ ما يجبرك، وكافٍ بما ينصرك، فبغير سؤالك- بل بغير علمك بحالك- يكفيك من حيث لا تشعر، ويعطيك من غير أن تطلب‏.‏

والإشارة من اللام إلى لطفه بك في خفيِّ السرِّ حتى أنه لا يظهر عليك محل المنة فيما يثبتك فيه‏.‏ والإشارة من الميم لموافقة جريان التقدير بمتعلقات الطِّلْبَةِ من الأولياء، فلا يتحرك في العالم شيء، ولا تظهر ذرة إلا وهو بمحل الرضا منهم حتى أن قائلاً لو قال في قوله‏:‏ ‏{‏كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 29‏]‏ إن ذلك الشأن تحقيق مراد الأولياء- لم يكن ذلك ببعيد‏.‏

ويقال تفرَّق عن القلوب- باستماع هذه الحروف المقطعة التي هي خلاف عادة الناس في التخاطب- كلُّ معلوم ومرسوم، ومعتاد وموهوم، من ضرورة أو خِسٍّ أو اجتهاد، حتى إذا خلت القلوب عن الموهومات والمعلومات، وصفَّى الأسرار عن المعتادات والمعهودات يَرِدُ هذا الاسم وهو قوله‏:‏ «الله» على قلب مقدَّسٍ من كل غَيْرٍ، وسِرٍّ مصفىً عن كل كيف؛ فقال‏:‏ ‏{‏الم اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَىُّ القَيُّومُ‏}‏‏.‏

فهو الذي لا يلهو فيشتغل عنك، ولا يسهو فتبقى عنه، فهو على عموم أحوالك رقيبُ سِرِّك؛ إنْ خلوتَ فهو رقيبك، وإن توسطت الخَلْقَ فهو رقيبك، وفي الجملة- كيفما دارت بك الأحوال- فهو حبيبك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏3‏)‏ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ‏}‏‏.‏

وما كنتَ يا محمد تدري ما الكتاب، ولا قصة الأحباب، ولكنما صادفك اختيار أزليّ فألقاك في أمرٍ عجيبٍ شأنُه، جَلِيٌّ برهانُه، عزيزٍ محلُّه ومكانُه‏.‏

‏{‏مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏‏.‏

أي محققاً لموعوده لك في الكتاب على ألسنة الرسل عليهم السلام‏.‏

‏{‏وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى للنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ‏}‏‏.‏

أي إنا أنزلنا قبلك كُتُبَنَا على المرسلين فما أخْلَيْنَا كتابًا من ذِكْرِكْ، قال قائلهم‏:‏

وعندي لأحبابنا الغائبين *** صحائفُ ذِكرُك عنوانُها

وكما أتممنا بك أنوار الأنبياء زيَّنا بذكرك جميع ما أنزلنا من الأذكار‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏‏.‏

وهو ذُلُّ الحجاب، ولكنهم لا يشعرون‏.‏

‏{‏واللهُ عَزِيرٌ‏}‏ على أوليائه ‏{‏ذُو انْتِقَامٍ‏}‏ من أعدائه، عزيز يطلبه كل أحد، ولكن لا يجده- كثيراً- أحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

لا يتنفس عبدٌ نَفَساً إلا والله سبحانه وتعالى مُحْصِيه، ولا تحصل في السماء والأرض ذرة لا وهو سبحانه مُحْدِثهُ ومُبْدِيه، ولا يكون أحد بوصف ولا نعت إلا هو متوليه‏.‏

هذا على العموم، فأمَّا على الخصوص‏:‏ فلا رَفَعَ أحدٌ إليه حاجةً إلا وهو قاضيها، ولا رجع أحدٌ إليه في نازلة إلا وهو كافيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ‏}‏‏.‏

هذا فيما لا يزال من حيث الخلقة، وهو الذي قدَّر أحوالكم في الأزل كيف شاء، وهذا فيما لم يزل من حيث القضاء والقسمة‏.‏

‏{‏لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ‏}‏‏.‏

فلا يُعَقِّبُ حكمهُ بالنقض، أو يُعَارَضُ تقديره بالإهمال والرفض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

جَنَّسَ عليهم الخطاب؛ فمِنْ ظاهرٍ واضح تنزيله، ومن غامض مشكل تأويله‏.‏ القِسْم الأول لبسط الشرع واهتداء أهل الظاهر، والقِسْم الثاني لصيانة الأسرار عن اطلاع الأجانب عليها، فسبيلُ العلماء الرسوخُ في طلب معناه على ما يوافق الأصول، فما حصل عليه الوقوف فمُقَابَلٌ بالقبول، وما امتنع من التأثر فيه بمعلول الفكر سلَّموه إلى عالم الغيب‏.‏

وسبيل أهل الإشارة والفهم إلقاء السمع بحضور القلب، فما سنح لفهومهم من لائح التعريفات بَنَوْا ‏(‏عليه‏)‏ إشارات الكشف‏.‏

إنْ ‏(‏طولبوا‏)‏ باستدامة الستر وطيِّ السِّر تخارسوا عن النطق، وإنْ أُمِروا بالإظهار والنشر أطلقوا بيان الحق، ونطقوا عن تعريفات الغيبة، فأمَّا الذين اُيِّدوا بأنوار البصائر فمستضيئون بشعاع شموس الفهم، وأمّا الذين ألبسوا غطاء الريب، وحرموا لطائف التحقيق، فتتقسم بهم الأحوال وتَتَرجَّمُ بهم الظنون، ويطيحون في أودية الرَّيْبِ والتلبيس، فلا يزدادون إلا جهلاً على جهل، ونفوراً على شك‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ‏}‏‏.‏

ومَنْ وجد علمه من الله فيكون إيمانهم بلا احتمال جولان خواطر التجويز بل عن صريحات الظهور، وصافيات اليقين‏.‏ وأمّا أصحاب العقول الصاحية ففي صحبة التذكر، لظهور البراهين و‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ أحكام التحصيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ما ازدادوا قرباً إلا ازدادوا أدباً، واللياذ إلى التباعد أقوى أسباب رعاية الأدب ويقال حين صدقوا في حسن الاستغانة أُمِدُّوا بأنوار الكفاية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

اليوم جمع الأحباب على بساط الاقتراب، وغداً جمع الكافة لمحل الثواب والعقاب، اليوم جمع الأسرار لكشف الجلال والجمال، وغداً جمع الأبشار لشهود الأحوال، ومقاساة ما أخبر عنه من تلك الأحوال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

فلا فداء ينفعهم، ولا غناء يدفعهم، ولا مال يُقبَلُ منهم، ولا حجاب يُرفَع عنهم، ولا مقال يسمع فيهم، بهم يُسَعَّرُ الجحيم، ولهم الطرد الأليم، والبعد الحميم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

أصرُّوا في العتوِّ على سَنَنهم، وأدَمْنَا لهم في الانتقام سَنَنَا، فلا عن الإصرار أقلعوا، ولا في المَبَارِّ طَعِمُوا، ولعمري إنهم هم الذين نَدِموا وتحسَّرُوا على ما قدَّموا- ولكن حينما وجدوا البابَ مسدوداً، والندمَ عليهم مردوداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُل لّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ‏}‏‏.‏

أخبرهم أنهم يفوتهم حديث الحق في الآجل، ولا تكون لهم لذةُ عيشٍ في العاجل، والذي يلقونه في الآخرة من شدة العقوبة بالحُرْقة فوق ما يصيبهم في الدنيا من الغيبة عن الله والفرقة، ولكن سَقِمتْ البصائر فلم يحسوا بأليم العقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

إذا أراد اللهُ إمضاءَ أمرٍ قلَّل الكثير في أعين قوم، وكثَّر القليل في أعين قوم، وإذا لبَّس على بصيرة قوم لم ينفعهم نفاذ أبصارهم، وإذا فتح أسرار آخرين فلا يضرهم انسداد بصائرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يذكر بعض الشهوات على ما سواها مما هو في معناها، وفي الجملة ما يحجبك عن الشهود فهو من جملتها‏.‏ وأصعب العوائق في هذه الطريق الشهوة الخفية‏.‏ وأداء الطاعات على وجه الاستحلاء معدودٌ عندهم في جملة الشهوة الخفية‏.‏ ومن المقاطع المشكلة السكون إلى ما يلقاك به من فنون تقريبك، وكأنه في حال ما يناجيك يناغيك، فإنه بكل لطيفة يصفك فيطريك وتحتها خُدَعٌ خافية‏.‏ ومن أدركته السعادة كاشفه بشهود جلاله وجماله ‏(‏لا‏)‏ بإثباته في لطيف أحواله وما يخصه به من أفضاله وإقباله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

بيَّن فضيلة أهل التقوى على أرباب الدنيا، فقال‏:‏ هؤلاء لهم متابعة المنى وموافقة الهوى وأولئك لهم الدرجات العُلى، والله بصير بالعباد؛ أنزل كل قوم مَنْزِلَه، وأوصله إلى ما لَهُ أَهَّله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

أي ينقطعون إلينا بالكلية، ويتضرعون بين أيدينا بذكر المحن والرزية، أولئك ينالون منا القربة والخصوصية، والدرجات العليَّة، والقِسَم المُرضيَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

الصبرُ حبسُ النَّفْس، وذلك على ثلاث مراتب‏:‏

صبر على ما أُمرَ به العبد، وصبر عما نُهي عنه وصبر هو الوقوف تحت جريان حكمه على ما يريد؛ إمَّا في فوات محبوبك أو هجومَ ما لا تستطيعه‏.‏

فإذا ترقيتَ عن هذه الصفة- بألا تصيبك مشقةٌ أو تنال راحةً- فذلك رضاً لا صبر ويقال الصابرين على أمر الله، والصادقين، فيما عاهدوا الله‏.‏

و ‏{‏القَانِتِينَ‏}‏، بنفوسهم بالاستقامة في محبة الله‏.‏

و ‏{‏المُسْتَغْفِرِينَ‏}‏ عن جميع ما فعلوه لرؤية تقصيرهم في الله‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏الصّابِرِينَ‏}‏ بقلوبهم و‏{‏وَالصَّادِقِينَ‏}‏ بأرواحهم و‏{‏وَالقَانِتِينَ‏}‏ بنفوسهم، و‏{‏المُسْتَغْفِرِينَ‏}‏ بألسنتهم‏.‏

ويقال «الصابرين» على صدق القصود «الصادقين» في العهود «القانتين» بحفظ الحدود و«المستغفرين» عن أعمالهم وأحوالهم عند استيلاء سلطان التوحيد‏.‏

ويقال «الصابرين» الذين صبروا على الطلب ولم يتعللوا بالهرب ولم يحتشموا من التعب، وهجروا كل راحة وطلب‏.‏ وصبروا على البلوى، ورفضوا الشكوى، حتى وصلوا إلى المولى، ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى‏.‏

و «الصادقين» الذين صدقوا في الطلب فقصدوا، ثم صدقوا حتى وردوا، ثم صدقوا حتى شهدوا، ثم صدقوا حتى وجدوا، ثم صدقوا حتى فقدوا‏.‏‏.‏ فترتيبهم قصود ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود‏.‏

و «القانتين» الذين لازموا الباب، وداوموا على تجرّع الاكتئاب، وتركوا المحاب، ورفضوا الأصحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب‏.‏

و ‏{‏وَالمُنفِقِينَ‏}‏ الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال، ‏(‏ثم جادوا بميسورهم من الأموال‏)‏، ثم جادوا بقلوبهم بصدق الأحوال، ثم جادوا بترك كل حظٍ لهم في العاجل والآجل، استهلاكاً عند القرب والوصال بما لقوا من الاصطلام والاستئصال‏.‏

و ‏{‏وَالمُسْتَغْفِرِينَ‏}‏ عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو عند الأسحار يعني ظهور الإسفار، وهو فجر القلوب لا فجر يظهر في الأقطار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللهَ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ‏}‏‏.‏

أي عَلِمَ اللهُ وأخبر اللهُ وحَكَمَ اللهُ بأنه لا إله إلا هو، فهو شهادة الحق للحق بأنه الحق، وأوَّلُ مَنْ شهد بأنه اللهُ- اللهُ، فشهد في آزاله بقوله وكلامه وخطابه الأزلي، وأخبر عن وجوده الأحدي، وكونه الصمدي، وعونه القيومي، وذاته الديمومي، وجلاله السرمدي، وجماله الأبدي‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللهُ‏}‏ ثم في آباده، «شهد الله» أي بيَّنَ اللهُ بما نَصَبَ من البراهين، وأثبت من دلائل اليقين، وأوضح من الآيات، وأبدى من البينات‏.‏ فكلُّ جزءٍ من جميع ما خلق وفطر، ومن كتم العدم أظهر، وعلى ما شاء من الصفة الذاتية حصل، من أعيان مستقلة، وآثار في ‏(‏ثاني‏)‏ وجودها مضمحلة، وذوات للملاقاة قابلة، وصفات في المَحَالِّ متعاقبة- فهو لوجوده مُفْصِح، ولربوبيته موضَّح، وعلى قِدَمِه شاهد، وللعقول مُخْبِر بأنه واحد، عزيز ماجد، شهد سبحانه بجلال قَدْره، وكمال عزه، حين لا جحد ولا جهود ولا عرفان لمخلوق ولا عقل، ولا وفاق، ولا كفر، ولا حدثان، ولا غير، ولا إلحاد، ولا شِرْك، ولا فهم ولا فكر، ولا سماء ولا فضاء، ولا ظلام ولا ضياء، ولا وصول للمزدوجات، ولا فضول باختلاف الآفات‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالمَلاَئِكَةِ‏}‏‏.‏

لم يؤيِّد شهادته بوحدانيته بشهادة الملائكة بل أسعدهم وأيَّدُهم، حين وفَّقَهم بشهادة وسدَّدهم، وإلى معرفة وحدانيته أرشدهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَأُولُوا العِلْمِ‏}‏‏.‏

وهم أولياء بني آدم إذ علموا قدرته، وعرفوا نعت عزته فأكرمهم حيث قرن شهادته بشهادتهم، فشهدوا عن شهود وتعيين، لا عن ظن وتخمين، إن لم يدركوه- اليوم- ضرورة وحِسَّاً، لم يعتقدوه ظنّاً وحَدْساً؛ تعرَّف إليهم فعرفوه، وأشهدهم فلذلك شهدوا، ولو لم يقُلْ لهم إنه مَنْ هو لَمَا عرفوا مَنْ هو‏.‏

ولكنَّ العلماء يشهدون بصحو عقولهم، والمُوَحِّدُون يشهدون بعد خمودهم؛ فهم كما قيل‏:‏

مُسْتَهْلَكُون بقهر الحق قد هَمَدُوا *** واستُنْطِقُوا بعد افتنائهمُ بتوحيد

فالمُجْرِي عليهم ما يبدو منهم- سواهم، والقائمُ عنهم بما هم عليه وبه- غيرُهم، ولقد كانوا لكنهم بانوا، قال قائلهم‏:‏

كتابي إليكم بعد موتي بليلة *** ولم أدرِ أنِّي بعد موتي أكتب

وأولو العلم علىمراتب‏:‏ فَمِنْ عالِم نَعْتُه وفاق ورهبانية، ومن عالم وصفه فناء وربانية، وعالم يعرف أحكام حلاله وحرامه، وعالم يعلم أخباره وسننه وآثاره، وعالم يعلم كتابه ويعرف تفسيره وتأويله، ومحكمه وتنزيله، وعالم يعلم صفاته ونعوته ويستقوي حججه وتوحيده بحديث يخرجه ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، وعالم لاطفه حتى أحضره ثم كاشفه فقهره، فالاسم باقٍ، والعين محو، والحكم طارق والعبد محق، قال قائلهم‏:‏

بنو حق غدوا بالحق صِرفاً *** فنعت الخلْق فيهمو مستورُ

وليست الإشارة من هذا إلا إلى فنائهم عن إحساسهم، وعند عِلْمِهم بأنفسهم، فأما أعمالهم أعيانهم فمخلوقة، وما يفهم بذواتهم من أحوالهم فمسبوقة، وذات الحق لا توصف بقبول حدثان، وصفات ذاته لا تقبل اتصالاً بالغير ولا انفصالاً عن الذات، تقدَّس الحق عن كل ضدِّ وندِّ، ووصل وفصل، وجمع وفرق، وعين وخلق، وملك وفلك، ورسم وأثر، وعبد وبشر، وشمس وقمر، وشخص وغَبَر‏.‏